منذ عدة سنوات .. قامت فرنسا بإنشاء مستوصف صغير في منطقة جبلية بمدينة فقط التي تقع في صعيد مصر وتبعد عن مدينة الأقصر بكيلو متر واحد, وذلك لخدمة رعاياها من أعضاء البعثة الفرنسية المتخصصة في التنقيب عن الآثار الفرعونية القديمة في جبال تلك المنطقة في الصعيد.
وقامت الحكومة الفرنسية بتجهيز المستوصف بكافة الإمكانات والأجهزة الطبية الدقيقة والحديثة , كي تجعل منه وحدة طبية متكاملة قادرة على الاعتماد على نفسها ذاتيا دون الحاجة إلى أي من المستشفيات المصرية في الصعيد , حيث أن مقر إقامة البعثة يعتبر في منطقة جبلية نائية شبه منعزلة , بالإضافة وللأسف إلى سوء الرعاية الطبية في مستشفيات الصعيد والتي لا يمكن الاعتماد عليها – في نظر الحكومة الفرنسية - لرعاية أعضاء البعثة الفرنسية.
وبالرغم من أن معظم الأجهزة الطبية كانت واردة من فرنسا , فقد تم التعاقد بين البعثة الفرنسية والشركة التي كنت أعمل بها كمهندس للأجهزة الطبية على أن تقوم الشركة بكل أعمال التركيبات والتسليم والصيانة الدورية لضمان عمل تلك الأجهزة بكفاءة تامة طوال فترة عمل البعثة في مصر وتخصيص مهندس من قبلها لهذا الغرض… وتم اختياري من قبل الشركة شخصيا لتلك المهمة , حيث أن تلك الأجهزة الفرنسية مختلفة إلى حد كبير مع مثيلاتها التي تتعامل فيها الشركة وتحتاج إلى خبرة في التعامل معها.
وفي يوم السفر توجهت بالطائرة من القاهرة إلى مطار الأقصر , ثم أخذت سيارة خاصة من مطار الأقصر إلى موقف مدينة فقط , حيث كان مقررا أن تكون هناك سيارة جيب في انتظاري لنقلي لمكان المستوصف في الجبل.
وبمجرد وصولي إلى الموقف , توجه إلي سائق السيارة الجيب الذي كان ينتظرني:
السائق : أهلا بيك يا باشمهندس .. حمد الله على السلامة
قلت : أهلا وسهلا .. أمال العربية بتاعتك فين ؟؟
السائق : هو بس في مشكلة صغيرة
قلت : خيييير .. هو من أولها كده مشاكل .. ده أنا لسه بقول يا هادي.
السائق : أصل العربية الجيب حصل فيها مشكلة النهاردة الصبح ولسه الميكانيكي ماخلصهاش.
قلت : وسيادتك بقى ناوي تقعدنا جنب البيه الميكانيكي لحد ما يتكرم علينا ويصلح العربية .. ولا إيه بالضبط ؟؟
السائق : لا يا باشمهندس .. وإحنا إيه اللي حيخلينا نستنى الميكانيكي .. سيادتك حتسبق وتروح هناك.
قلت : حسبق وأروح هناك ؟؟ .. أنا بس عايز أفهم جنابك , إن الشنطة اللي معايا دي شنطة أدوات وعدد هندسية , مش شنطة معدات مخصصة لتسلق الجبال !!!
السائق : ومين قال يا بيه إنك حتطلع الجبل لا سمح الله على رجليك .. (سليم) الحارس بتاع المستوصف جاي معايا وحيوصلك بالكاريته بتاعته لحد هناك.
ثم أشار السائق إلى اتجاه المدعو (سليم) .. وعندما نظرت إليه , وجدته رجلا من صعايدة الجبل في العقد الرابع من عمره , يرتدي جلباب أسود , ويضع على رأسه عمامة بيضاء مربوطة بإهمال شديد , وكأنها خرقة بالية سقطت على رأسه خطأ من حبل غسيل .. فتركها على وضعها كما هي !!
ثم جاءني سليم ومد يده .. وسلم علي بحرارة شديدة .. وتحدث لي بلهجة صعيدية جبلية قبلية قائلا:
سليم : أهلا بيك يا باشامهندز .. الكاريتة واجفة هناك أهى … (وأشار بيده إليها)
وعندما نظرت إلى الاتجاه الذي أشار إليه .. كان أول ما لفت نظري , ذلك الحيوان الغريب المربوط في تلك الكاريتة.
فلم أستطع أن أميز ما إذا كان ذلك الحيوان حصان أم حمار !!
فقد كان جذعه ضخم مثل جذع الحصان , إلا أن أرجله كانت قصيرة مثل أرجل الحمار.
وكان هيكل رأسه يماثل الحصان , إلا أن أذنيه كانتا طويلتين مثل أذني الحمار.
وحجمه ككل كان أكبر من حجم الحمار بصورة ملحوظة , أما ارتفاعه فكان أقل من ارتفاع الحصان.
وظننت في البداية أن ذلك الحيوان ينحدر من سلالة معينة من سلالات الخيل , وإن كان مظهره وقوامه غير عاطفي بالمرة إذا ما قورن بمظهر وقوام الحصان.
فسألت (بدهشة) : إيه يا سليم الحاجة الغريبة اللي إنت رابطها في الكاريتة بتاعتك دي ؟؟
سليم (بتعجب) : الحاجة الغريبة !!! .. هو انت عمرك ما شفت (بغل) قبل كده ولا إيه يا بيه ؟؟
قلت : يااااه .. هو ده بقى البغل .. أصلي بصراحة ماحصليش الشرف بمقابلة (بغل) قبل كده !!
سليم : ما هو البغل ده يا بيه هو الحاجة الوحيدة اللي تقدر تمشي في الجبال والمناطق الواعرة دي.
والحقيقة أيها الأخوة القراء .. أننا لو نظرنا إلى البغل نظرة فاحصة , سنجد أن تكوينه الخلقي بالفعل يجعله متميزا عن كل من الحمار والحصان في أمور عدة , وإن كان يعيبه في أمور أخرى.
فالبغل هو حيوان مهجن من تزاوج حمار وفرس , كما أن البغل خنثى أي لا يتزاوج ولا يلد.
فالجذع القوي للبغل وحجمه الضخم , وإن كان يجعله أكثر قدرة من الحمار على حمل الأثقال على ظهره .. إلا أن البغل ليست له القدرة على المناورة في المنحنيات الضيقة مثل الحمار , كما أن السيطرة عليه والتحكم فيه عند الركوب فوقه أصعب ألف مرة من السيطرة على الحمار.
كما أن قصر أرجل البغل وإن كانت تجعله أكثر قدرة من الحصان على حفظ توازنه وعدم الانزلاق والوقوع في المناطق الجبلية الوعرة .. إلا أن البغل ليست لديه المقدرة على الجري بسرعة الحصان في الأماكن المنبسطة , بالإضافة إلى عدم قدرته على الكر والفر والقفز على الحواجز مثل الحصان .. وإن كان كمية ما يلتهمه البغل من علف يوميا , تفوق تلك التي يتناولها الحصان !! … (فعلا بغل)
كما أن البغل به عيب آخر خطير , وهو رفضه تماما السير بعد غروب الشمس .. (لسبب خاص بالبغل لم يفصح عنه بعد !!)
فإذا كان هناك من أطلق على الجمل لقب سفينة الصحراء .. فإن البغل بلا شك يستحق لقب سفينة الجبال
فالبغل في النهاية .. حيوان خلقه الله تعالى كي يقوم بتلك الوظائف التي قد تكون شاقة وصعبة على كل من الحصان أو الحمار , وفي نفس الوقت سنجد أن البغل لا يمكن الاعتماد عليه في تخصصات كل من الحصان أو الحمار.
فالذي يرى البغل ويتفحص في تكوينه وخلقه .. يتذكر قول الله تعالى في سورة النحل :
وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ {8}
مع ملاحظة الترتيب وفقا للحجم .. حيث تم ذكر الخيل أولا , فالبغال ثانيا , فالحمير ثالثا.
وبعد أن فرغت من فحصي لذلك البغل , نظرت إلى العربة التي يجرها والمفترض أني سأركب بها .. فراعني ما رأيت.
كانت العربة مصنوعة من الخشب وقديمة جدا ومتهالكة وتسير على عجلتين اثنتين , مثل تلك العربات التي تظهر في رسومات الفراعنة يجرها حصان ويقف عليها أحد الجنود وهو يصوب سهمه إلى الأعداء , وإن كنت اعتقد أن عربات الفراعنة القديمة كانت أعلى في التقنية الفنية والحداثة من تلك العربة !!
كما أنني لاحظت أن العربة تميل على جنبها الأيسر بزاوية ملحوظة , وعندما تفحصت العربة من جانبيها لمعرفة سبب الميل , وجدت أن العجلة اليمنى مصنوعة من الخشب , أما العجلة اليسرى فقد كانت عجلة كاوتش قديمة لأحد عربات النقل وأقل في القطر من العجلة اليمنى .. مما أدى إلى ميل العربة ناحيتها على الأفقي يسارا.
فسألت سليم : هي العربية دي من إكتشافات البعثة الفرنسية بتاعة الآثار ولا إيه يا سليم ؟؟
سليم : أصل العجلة الشمال كانت أصلا خشب زي اليمين يا بيه .. بس الطريق الجبلي كسرها فبدلناها بالعجلة الكاوتش دي.
قلت : يا عيني على الإختراعات !! .. طب وهو المسافة من هنا لحد المستوصف أد إيه تقريبا ؟؟
سليم : حوالي سبعة كيلو جوه الجبل يا بيه.
قلت (بدهشة) : سبعة كيلو جوه الجبل ؟؟؟ .. هو احنا رايحين مستوصف ولا منجم فوسفات !!
سليم : المسألة بسيطة يا بيه.
قلت : طب وتفتكر الكاريتة بتاعتك دي حتستحمل السبعة كيلو دول ؟؟
سليم (بثقة) : أمال يا بيه .. ده البغل ده ممكن يطلع الجبل وينزل عشر مرات.
قلت (بعصبية) : يا سيدي مش بسألك عن البغل .. بسألك عن كوم الخردة اللي بيجره البغل.
سليم : يعني تفتكر حركبك في حاجة بايظة يا بيه ؟؟
قلت : أفتكر ولا مفتكرش .. الأمر لله .. يالا بينا يا سيدي .. توكلنا على الله.
وبمجرد ركوبي في ذلك الصندوق الخشبي من جهة اليمين .. وجدت نفسي - نتيجة لميل العربة يسارا - أني قد انزلقت بشدة إلى أقصى الركن الأيسر للعربة حتى ارتطم كتفي الأيسر بجانبها , واتبعه ذلك انزلاق حقيبتي الثقيلة - التي كنت أحملها بيدي اليمنى - حتى ارتطمت بكتفي الأيمن هي الأخرى .. فأصبحت محشورا في أقصى يسار العربة بين حقيبتي من اليمين , وجانب العربة من اليسار , مع حدوث كدمتين أحدهما في الكتف الأيمن والأخرى في الكتف الأيسر.
أما المدعو (سليم) , فقد جلس على قطعة خشبية مرتفعة خلف البغل مباشرة وبدأ في التحرك , وبمجرد تحرك العربة اكتشفت شيئا آخر , وهو أن العجلة الخشبية اليمنى لم تكن دائرية منتظمة وإنما كانت بيضاوية , فكانت العربة ترقص ارتفاعا وهبوطا من الجهة اليمنى , وكأنه لا يكفيها ميلها الأصلي للجهة اليسرى !!
واستمرت الرحلة في وسط مدق صخري وعر .. كنت أشعر خلالها أني أجلس بداخل خلاط خرسانة أو آلة من آلات التعذيب الروماني القديمة المخصصة لتكسير العظام .. وكنت أسائل نفسي في ذلك الوقت عن سر اختيار أجدادنا الفراعنة لذلك المكان البشع لبناء آثارهم , والتي قامت البعثة الفرنسية بتشييد مقرها المؤقت بجوارها !!
وبعد قرابة ساعة كاملة لقطع مسافة سبعة كيلو مترات فقط !! .. وصلنا بحمد الله الذي لا يحمد على مكروه سواه إلى المكان المقصود , عندئذ بدأت في لم شمل عظامي وأعضائي التي كانت تعصر وتفرم داخل ذلك الصندوق الخشبي , حتى استطعت التخلص منه والخروج أخيرا.
وبعد أن وقفت على الأرض ونصبت قوامي , نظرت إلى المستوصف فوجدته من الخارج عبارة عن مبنى بسيط مكون من دور واحد فقط , ويحيط به سور صغير.
وأثناء توجهي إلى باب السور تسمرت في مكاني فجأة .. وذلك عندما فوجئت بالمدعو (سليم) يصرخ قائلا:
سليم (صارخا) : حاسب ياباشامهندز .. حاااااااااسب.
قلت (بذهول) : في إيه ؟؟
سليم (بعصبية) : خللى بالك .. إنت كنت حتدوس برجليك في الجير الحي.
وعندما نظرت أمامي أيها الأخوة القراء , وجدت أن سور المستوصف كله محاطا بخط من الجير الحي بارتفاع حوالي نصف متر وعرض نصف متر أيضا , ويليه إلى الداخل قناة مائية عرضها حوالي نصف متر وعمقها حوالي ربع متر , ومبطنة بالجبس ليحول دون امتصاص التربة الصخرية للمياه.
كنت وكأني انظر إلى نموذج مصغر لقناة السويس وخط بارليف ما قبل سنة 73 .. فسألت سليم:
قلت (باندهاش) : ده إيه ده كمان يا سليم ؟؟
سليم : ما هو احنا حاطين جير حي في الأول عشان أي حاجة تيجي تدخل المستوصف تتعفر بيه الأول .. وبعد كده أما تيجي تنزل في الميه تفرقع وتموت.
والنظرية العلمية أيها الأخوة القراء لهذه الطريقة في الحماية من الحشرات والزواحف تتلخص فيما يلي:
وهو أن الجير الحي عبارة عن مسحوق أبيض شديد الشراهة للماء .. كما أنه له تأثير كاوي على الجلد , فعند مرور حشرة عليه تلتصق بجسمها ذرات الجير الحي وتعلق به , وعند مرورها في الماء بعد ذلك تمتص ذرات الجير الحي العالقة بجلدها الماء بشراهة وتتولد حرارة عالية نتيجة للتفاعل الكيميائي الناتج , فيدخل الماء في ثنايا الحشرة .. فإما أن تموت نتيجة لانتفاخها بالماء حتى الانفجار , أو نتيجة لاحتراقها بالحرارة الناتجة من تفاعل الجير الحي مع الماء.
وبرغم بساطة هذه الطريقة وكفاءتها .. إلا أنني لا أنصح أحدا بتنفيذها على باب منزله , خوفا من احتراق أقدام أي ضيف بريء قد يقع في تلك المصيدة سهوا كما كنت سأقع أنا.
وبعد أن شرح لي سليم نظرية الجير الحي والماء بطريقته .. أثار قلقي ما ذكره في جملة: (أي حاجة تيجي تدخل المستوصف) .. فسألته
قلت (بقلق) : قصدك بإيه (أي حاجة) اللي بتحاول تدخل المستوصف دي يا أستاذ سليم ؟؟
سليم : قصدي يعني العقارب والثعابين والسحالي والأبراص والخنافس وبقية الحشرات.
قلت (بذهول) : يا نهار طيييييين .. كل دول واقفين طابور وبيحاولوا يدخلوا المستوصف ؟؟
سليم : إنت ناسي إننا في جبل صخري وعر يا بيه ؟؟
قلت : ده إيه المكان المنيل ده .. المصيبة إن الشغل اللي هنا حياخد أكتر من يوم , والمفروض أني أبيت هنا.
سليم : يا بيه ماتقلقش .. مافيش أي حاجة من دول بتدخل المستوصف جوه.
ثم وجدت سليم قد جاء بقطعة خشب عريضة وطويلة مثل تلك التي يستخدمها عمال البناء كسقالة للوقوف عليها , ثم وضعها (كوبري) فوق تل الجير الحي وقناة المياه , وطلب مني أن أعبر عليها إلى داخل حرم المستوصف.
وأثناء عبوري على ذلك الجسر الصغير نظرت بتفحص إلى تلك القناة المائية , فوجدت طافيا بها بقايا متحللة من العقارب والسحالي والخنافس , بالإضافة لهيكل عظمي لأحد الثعابين الصغيرة.
وعند دخولي مبنى المستوصف كان في استقبالي ثلاثة أشخاص .. وبعد السلام والتحية , عرفت أن أحدهم طبيب مصري منتدب من البعثة الفرنسية لاستلام الأجهزة الطبية واستكمال احتياجات المستوصف , والثاني مهندس مختص بالمولد الكهربائي الذي يغذي المبنى بالكهرباء , والثالث مندوب من هيئة الآثار المصرية.
وبعد أن فرغنا من التعارف والسلام وقبل سؤالي عن الأجهزة.
الدكتور : طب كويس إن الميكانيكي لحق يصلح العربية الجيب عشان يجيبك فيها يا باشمهندس.
قلت : للأسف الميكانيكي لسه مصلحش العربية الجيب.
الدكتور : لسه مصلحهاش !!! .. أمال إنت جيت إزاي هنا يا باشمهندس ؟؟
قلت : جيت في العربية (الجيب) بتاعة الكابتن سليم.
الدكتور (بتعجب) : وهو الواد سليم ده عنده عربية جيب دفع رباعي ؟؟
قلت : هي في الحقيقة مش دفع رباعي .. هي جر رباعي .. الموتور اللي بيجرها على أربع رجلين .. بس عيبها الوحيد إن الكابينة الخلفية مش مكيفة.
الدكتور (بعد أن فهم) : الله يخرب مخك يا واد يا سليم .. فضحتنا مع الناس الله يفضحك.
فسألت : قبل أي حاجة يا دكتور .. إيه موضوع العقارب والثعابين اللي هنا ده ؟؟
الدكتور : هو الواد سليم أبو لسان زالف ده لحق يقولك .. أنا عايزك تطمن خالص , مفيش حاجة من دي بتدخل هنا.
فسألت : يعني الجير الحي والمية اللي بره دول مفيش حاجة ممكن تعدي منهم.
الدكتور : إستحالة يا باشمهندس .. لو كان في حاجة بتعدي مكناش قعدنا هنا دقيقة واحدة.
وبعد أن اطمأننت لكلام الدكتور .. طلبت معاينة الأجهزة التي وصلت من فرنسا , وكذلك الكتالوجات والرسومات الخاصة بها ومكان التركيب.
وبعد الفحص والمعاينة وجدت أن مدة التركيب ستستغرق حوالي 20 ساعة عمل .. وهذا يعني قضائي ليلة كاملة في هذا المكان لإتمام عملية التركيب والتشغيل , فقلت للدكتور:
قلت : الموضوع ده حياخد يوم كامل .. وحقضي الليلة دي في التركيب عشان أكون خلصت شغل على بكره الظهر كده بمشيئة الله تعالى.
الدكتور : يااااه .. يعني مش حتنام ؟؟
قلت : أبقى أنام أما أرجع مصر إنشاء الله .. لكن مدام قطعت المسافة دي كلها من مصر لحد هنا يبقى لازم أنهي التركيب قبل ما أرجع .. أنا معنديش استعداد آجي المشوار المهبب دي تاني.
ثم سمعنا صوت كلاكس السيارة الجيب آتيا من الخارج.
الدكتور : الحمد لله العربية وصلت .. طب أنا كنت عايو اوريلك أودتك اللي حتبيت فيها يا باشمهندس قبل ما نمشي.
قلت (مندهشا) : تمشوا ؟؟ .. أمال أنا حقعد هنا لوحدي ولا إيه ؟؟
الدكتور : لأ طبعا .. سليم هو الغفير بتاع المستوصف ويعرف الجبل حتة حتة .. وحيبيت معاك.
قلت : يعني مالقيتش غير سليم ده يا دكتور .. ما تشوف حاجة أنظف شوية.
الدكتور (مبتسما) : هو الواد سليم أي نعم غبي حبتين .. لكن جدع وممكن تعتمد عليه .. تعال أما أوريلك أودتك عشان تريحلك فيها ساعة ولا حاجة من السفر قبل ما تبدأ الشغل.
وعندما ذهبت مع الدكتور والوفد المرافق معه كي يريني حجرتي .. وجدت أن الحجرة بسيطة ونظيفة , ولكني لاحظت شيئا غريبا .. فقد وجدت أن السرير الموجود بالحجرة له أربعة أرجل , وكل رجل من هذه الأرجل الأربعة موضوعة داخل جردل بلاستيك كبير .. فسألت الدكتور:
قلت (بقلق) : وإيه لازمة الجرادل دي يا دكتور ؟؟
الدكتور : أبدا أبدا .. دي مجرد زيادة في الحماية .. الجرادل دي بنملاها مية عشان لو أي حشرة صغيرة حبت تطلع على السرير , حتطلع على الجردل الأول وبعدين تقع جوه المية فتموت قبل ما توصل لرجل السرير.
فقلت (وقد استبد القلق بي) : هو مش انت قلتلي يا دكتور إن الجير الحي والمية اللي بره ما بيدخلوش حاجة خالص؟
سليم (مقاطعا حديثي مع الدكتور) : بس يا باشامهندز الجير الحي والمية ما ينفعوش مع العقربة الطيارة !!!!!!!
وبمجرد أن نطق سليم بكلمة (العقربة الطيارة) سرت قشعريرة خاطفة في جسدي , ثم وجدت كلا من مهندس المولد ومندوب الآثار قد انتابتهما رعشة ملحوظة والتصق كلا منهما بالآخر وهما ينظران حولهما في خوف وقلق .. ثم وجدت الدكتور يصرخ في وجه سليم قائلا:
الدكتور : هو أنا مش قلتلك قبل كده يا زفت يا سليم ماتتدخلش في الكلام اللي مالكش فيه.
قلت (بعصبية) : أنا عايز اعرف إيه حكاية العقربة الطيارة دي الأول ؟؟
سليم : العقربة الطيارة دي عقربة عادية .. بس ليها جناحات وبتطير زي الجرادة بالضبط.
قلت : يعني بتلدغ زي العقربة العادية ؟؟
سليم : يووووه .. دي لدغتها أقوى من العقربة التانية .. اللي يطس منها يموت في ثانية.
الدكتور (محاولا طمأنتي) : بس يا باشمهندس إحنا حاطين سلك على كل الشبابيك .. يعني مفيش داعي للقلق.
قلت : سلك !!!!! .. السلك ده بنستعمله في مصر للناموس والدبان .. مش للعقارب .. أنا حمشي معاكم في العربية ومش قاعد هنا لحظة واحدة.
سليم : إستنى بس يا باشمهندس .. الموسم بتاع العقربة الطيارة مش دلوقتي خالص .. دي بتيجي في (أبيب) واحنا لسه في (طوبة).
قلت : هو إيه اللي (أبيب) و (طوبة) .. ما تكلمني بالشهور الميلادي يا خويا .. انا ناقصك انت كمان !!
الدكتور : يعني سليم عايز يقولك يا باشمهندس إن موسم العقربة الطيارة لسه قدامه ستة أشهر على الأقل .. وأرجوك يا باشمهندس الأجهزة لازم تركب بأسرع وقت .. البعثة حتوصل الأسبوع اللي جاي.
والحق أيها الأخوة القراء .. أنه بعد المناقشة والمداولة .. قررت أن أبيت تلك الليلة مع المدعو سليم لإنهاء تلك المهمة الثقيلة .. وتلوت قوله تعالى : فالله خير حافظ وهو أرحم الراحمين.
وبعد أن هم الدكتور بالانصراف نظر حوله باحثا عن مهندس المولد ومندوب الآثار فلم يجدهما .. فسأل سليم:
الدكتور : هو فين مهندس المولَّد الكهربي ومندوب الآثار يا واد يا سليم ؟؟
سليم : دول جريوا على العربية بره من ساعة ما كنا بنتكلم .. وقاعدين مرعوشين ومتكومين على نفسهم في العربية مستنيين سعادتك.
وبعد انصراف الدكتور .. قررت أن أتوجه لحجرتي كي آخذ قسطا من الراحة بعد عناء السفر لمدة ساعة قبل البدء في العمل .. وعندما نظرت مرة أخرى للجرادل الموضوعة تحت السرير , لاحظت أنها تكاد تكون خالية من الماء .. فرميت ظهري مستلقيا على السرير , وناديت على المدعو سليم وقلت له:
قلت (وأنا مستلقي على السرير) : يعني أنا نفسي أفهم إنت مش حاطط مية في الجرادل ليه ؟؟ .. يعني عايزني أنام في وسط الحشرات ؟؟
سليم : يوووووه .. ما هو أنا كل ما أملاها مية .. الـــفيـــران بنت الهرمة تيجي وتشربها.
وبمجرد سماعي كلمة (الـــفيـــران) أيها الأخوة .. إنتفضت ووجدت نفسي بحركة لا إرداية واقفا على السرير.
قلت (بذهول) : بتقول مين اللي بيشرب المية ؟؟
سليم : الفيران يا بيه.
قلت (بهستيرية) : فـــيـــراااااااااان .. والفيران دي بتعدي الجير الحي والمية إزاي ؟؟ .. ولا ما داهية لتكون الفيران بتاعتكم بتطير هي كمان زي العقارب !!!
سليم : هو في فيران بتطير يا بيه !! … الفيران بتحفر جحور تحت الجير الحي وقناية المية وبتدخل هنا.
فسألت (بعصبية) : طب وما اتهببتش قلت الكلام ده ليه والعربية لسه هنا .. ولا مستني أما تمشي عشان تبلغني ؟؟
سليم (بغباء) : يعني كنا حنعمل بالعربية إيه يابيه ؟؟ .. كنا حنلم الفيران ونعبيها فيها !!!!!!!!
قلت : لا يا عبقري عصرك .. كنتم حتعبوني أنا في العربية .. جتك الهم غبي .. أمال أنا ما إتشرفتش بحد من الأساتذة الفيران من ساعة ما جيت لحد دلوقتي ليه ؟؟
سليم : أصلهم ما بيظهروش إلا بالليل بس زي العفاريت يا بيه.
قلت : ياعيني على الليلة اللي حنقضيها هنا !!
سليم : أنا مش عايزك تقلق يا بيه .. الفيران الجبلي حجمها مش كبير زي فيران الغيطان.
قلت : الله يطمنك.
سليم : بس هي عيبها الوحيد إنها متوحشة وممكن تعض اللي يضايقها.
قلت : الله يقرفك.
سليم : بس الفيران جبانة يا بيه .. طب إنت عارف يا بيه , إني أما كنت مستنيك النهاردة الصبح بالكاريتة وقبل ما تيجي علطول .. كنت ماسك في يدي فار كبير من قفاه.
قلت : من قفاه !!! .. وكنت ماسكه ليه إنشاء الله .. كنت عايز تجيبه معانا يزور قرايبه اللي هنا ؟؟
سليم : لا يا بيه .. أنا كنت بخوف بيه العيال عشان مايقربوش من الكاريتة .. ليخربوها ولا حاجة.
قلت (بقرف) : يعني من حلاوة الكاريتة بتاعتك قوي .. جتك داهية فيك وفيها وفي البغل في ساعة واحدة.
وبعد أن قال سليم أنه كان ممسكا بفأر كبير في يده قبل وصولي مباشرة .. تذكرت شيئا هاما جدا.
قلت : إلا قوللي يا هباب ياللي اسمك سليم .. إنت بتقول إنك كنت ماسك فار كبير قبل ما آجي علطول ؟؟
سليم (بفخر) : أيوه يا بيه .. حصل.
قلت : طب إنت أول ما شفت خلقتي في موقف البلد .. مش حصل وجيت سلمت عليا بإيدك ؟؟
سليم : أيوه يا بيه .. حصل.
قلت : حلو قوي .. طب كنت إتنيلت على عينك وغسلت إيدك كويس قبل ما تسلم عليا ؟؟
سليم (ببلاهة منقطعة النظير) : وأغسلها ليه عاد ؟؟
وفي لحظة واحدة .. كنت واقفا أمام الحوض وأنا أكاد أقشر جلد يدي من فرط الغسيل , ثم أخرجت زجاجة ديتول من حقيبتي واستخدمتها لتأكيد التطهير.
سليم : عشان إيه ده كله يا بيه !! .. طب ده أنا بمسك الفار وآكل بعدها من غير ما أغسل إيدي .. ومفيش مشكلة.
قلت : والله إنت حر في نفسك .. تطفح مطرح الفار أو حتى تطفح الفار شخصيا .. ده شيء ما يهمنيش.
سليم : طب لعلمك بقى يا بيه .. فيران الغيطان الكبيرة , بناكلوها في الصعيد زي الأنارب بالضبط (يقصد الأرانب).
قلت (بقرف شديد) : على العموم مش حطلب منك تعزمني عندك .. وكفاية كلام بقى لأجيب اللي في بطني كله.
وعندما نظرت جهة النوافذ .. لاحظت أن جميع النوافذ قد تم تحصينها بقفص حديدي مثل تلك التي يضعها سكان الدور الأرضي حول نوافذهم لتحميهم من السرقة .. فسألت سليم:
قلت (ساخرا) : وأسياخ الحديد اللي انتم حطينها على الشبابيك دي فايدتها إيه إنشاء الله !! .. هو في حد بيهوب ناحية المكان المنيل ده ؟؟
سليم : إحنا مش حاطينها عشان البني آدمين .. إحنا حاطينها عشان الديــــابــــة .
قلت (بذهول) : ديـــابـــة ؟؟ … الله ينعل منظرك يا بعيد .. هو أنا كل خمس دقايق أكتشف مصيبة جديدة ؟؟
سليم : وأنا مالي بس يا بيه .. هو يعني الديابة دي كنت جايبها من بيتنا .. ما هم ملقحين في الجبل .. بس ماتقلقش يا بيه .. الديابة بتخاف تيجي هنا .. وبعدين أنا معايا سلاح .. ما تقلقش خالص.
قلت : عقارب طيارة .. وثعابين .. وسحالي .. وأبراص .. وفيران .. وكمان ديابة .. إحنا فين هنا ؟؟ .. في غابة استوائية ؟؟ .. شوية كمان نلاقي خرتيت وفيل داخلين علينا .. حاجة تقرف.
وبعد ذلك أيها الأخوة القراء .. قضيت ليلة لن أنساها ما حييت .. كانت عامرة بالأحداث .. وأحمد الله تعالى أني خرجت منها سالما.