رأيت الموت ... بل عشته !
مساء يوم الاثنين : 18/1/2010
اصطف عشرات ، بل مئات من البشر على جسر الوادى لمشاهدة السيل ،،، سبحان الله المياه تندفع بشدة فى مجرى الوادى ....
مكبرات الصوت تعلو ، على السادة المواطنين إخلاء المكان !
طبعا ليس ببالنا على الإطلاق أن يغادر السيل مجراه ليأتى إلى الحى ويصول ويجول فى المنطقة مدمرا ما حوله جارفا فى تياره ما يقابله من أشياء ....
ما زال الوضع إلى حد ما شبه مستقر ....
الساعة الثانية عشر والنصف بعد منتصف الليل ، خلد أفراد أسرتى كل إلى فراشه ،، لا أريد النوم ،، بدأت أتململ فى الفراش ، غادرت الحجرة بعد صراع دام ساعة ونصف بينى وبين النوم الذى يخاصمنى ؛ كانت الساعة الثانية من صباح يوم الثلاثاء 19/1/2010 لا أستطيع التركيز فى أى شئ لم أستطع القراءة ، فعدت ثانية لفراشى ... كانت هناك أصوات فى الشارع ، تقريبا بعض الناس تنقل حاجاتهم من منازلهم إلى أماكن أخرى ... طبعا لم أفتح الشرفة لأطل منها لأرى ما الوضع ....
أخشى أن أغمض عينى الآن فيغلبنى النعاس ... حيث بدأ القلق يتسرب إلى قلبى شيئا فشئ ....
آذان الفجر ....
الحمد لله سنصلى ثم أنام إن شاء الله ! لم أغادر الفراش مباشرة كى أتوضأ للصلاة ... فجأة الرجل فى المسجد يبكى ويقول فى الميكروفون : احترسوا من المياه ... احترسوا من المياه ،، المياه تقترب من الحى ... صوت يُرجف الأبدان !
قفزت من على الفراش وفتحت الشرفة وقد نسيت أن أضع غطاء الرأس على رأسى ...
هذا الصوت الباكى الذى سرى فى فضاء الحى المظلم جعلنى أرتجف بشدة ووجدتنى أبكى رغما عنى ... أسرعت إلى الهاتف كى أتصل بجارتنا فمنزلهم منخفض ... وبدأت أخاف ... كانت يدى ترتجف بشدة ! يعلو الرنين على الطرف الآخر ولا مجيب ،،، هيا ردى ،،، ردى الله يخليكى ... لا مجيب
سألتنى أمى هل أجابك أحد قلت لها لا ... وضعت السماعة وقلت لأمى سأصلى إن شاء الله ثم أعاود الاتصال ثانية ....
هنا وفى لحظة واحدة تغير نداء الرجل ...
احترسوا من المياه ... المياه تتدفق بغزارة إلى الحى ....
يا إلهى ... يا إلهي ... فرغت من صلاتى ،،، سألت أبى : بابا هى الميه فعلا جيه هنا
قال أبى : لقد وصلت حتى منزل عمك عزت !
فأسرعت إلى الشرفة وأنا أرتعد بشدة ، كنت أتوقع أن تكون المياه قادمة من ناحية بيت عمى عزت لكن ... كانت المياه تتدفق بغزارة من كل حدب وصوب ! كانت الساعة تقريبا الخامسة والنصف من صباح يوم الثلاثاء ، اختلط كل شئ .. لا طريق ولا شارع ... المياه تندفع أكثر فأكثر ... دخلت بعض المنازل المنخفضة ... يا الله .. يا الله ، اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا .. يا الله عصيناك لكنك بنا راحم ...
كنت أحب صوت المياه ... لكنى الآن أخافه بشده ..صوت المياه فى الشارع يفوق صوت البحر فى جو عاصف ، يخوننى اللفظ ويهرب منى المعنى فى سماء الخوف ، لا أخاف الموت فى حد ذاته ، ولا أشعر أنى سأموت الآن لكنى أشعر بانقباضة عنيفة فى قلبى ....
من كل نوافذ البيت أطل على الغرق والموت ....
يا الله !!!!!!!!!!!
يزداد تدفق المياه ، ما زال منزلنا صامد لارتفاعه ، يا إلهى هل ما أعيشه حقيقة ؟!!
لكم شاهدت تلك الصور على شاشات التلفاز لكن أشاهدها وأعايشها رؤى العين فهذا فوق خيالى !
أمسكت هاتفى الجوال ، وكانت الساعة السادسة والربع تقريبا ..كتبت رسالة صغيرة ( ادعو الله أن يكشف عنا البلاء وأن يغفر لنا اسرافنا فى أمرنا ) وأرسلتها إلى كل أقاربى وأصدقائى من مستخدمى شبكة فودافون فليس معى رصيد ...
أنظر من شرفة حجرة أبى فأرى المياه باندفاعها الشديد وهى تحمل معها جذوع النخيل يا سبحان الله ماهذا يبدو جسم سخان كهربى ! .....
أنظر من شرفة حجرة أخى وشرفة الصالة فأرى المياه باندفاعها قد دفعت سيارة جارنا ،،، أما شرفة حجرتى فكانت هى الموت بكل صوره !
الساعة التاسعة صباحا .....
بدأت بعض اللودرات تأتى إلى المنطقة لتنقل الأهالى من بيوتهم إلى الأماكن التى لم يطولها السيل ، الناس يركبون فى صندوق اللودر ، ينقل بعض الناس ثم يأتى ليأخذ غيرهم وهكذا ...ما زال منزلنا مرتفعا رغم ارتفاع المياه التى تصر على اقتحامه مثلما اقتحمت غيره من البيوت دونما استئذان لتدمر كل أساسياتها ولتعلن فى النهاية انتصار الطبيعة رغم تحديات البشر ... كانت معنا جارتنا وأطفالها فى منزلنا ،،، تقريبا جميع من فى المنطقة يغادرون منازلهم باللودر ،، أخى يقول دعونا نغادر الآن ولننزل فى أى فندق بعيد عن هنا ، أمى قالت إذا استمر الوضع هكذا فسوف نغادر ؛ أما أنا فقلت لن أغادر المنزل حتى ولو دخلت المياه هنا ... ليس عندا ولا مكابرة ولكنى لا أتخيل أن أغادر منزلى ... فإن متنا ، متنا سويا هكذا كنت قد عاهدت نفسى وكان أبى يفكر مثلى على ما أعتقد فلم يكن بباله أن يغادر منزلنا الحبيب ....
بدأت المياه تصعد سلالم البيت ... ارجعى أيتها المياه ... لماذا تصرى على اقتحام منزلى هكذا ؟! أرجوكى انحسرى ...
صوت المياه العنيف ،،، ونداءات الناس من حولى ،،، يرغب القلوب !
صوت أغنام وطيور ترسل نداءات استغاثة تشبه صوت طفل يبكى بحرقة ويستغيث من الخطر ....
الساعة العاشرة ... انخفض الصوت ... بدأ يخبو رويدا ، رويدا يا إلهى اختفى الصوت هل ماتت الأغنام ؟!!!
وللحكاية بقية إن شاء الله !